سورة الذاريات - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الذاريات)


        


{فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم} وفيهِ منَ الدلالةِ عَلى غايةِ عظمِ شأنِ القدرةِ الربانيةِ ونهايةِ قمأةِ فرعونَ وقومِه مَا لاَ يَخْفى {وَهُوَ مُلِيمٌ} أيْ آتٍ بما يلامُ عليه منَ الكفرِ والطغيانِ والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في فأخذنَاهُ {وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} وصفتْ بالعُقم لأنها أهلكتهم وقطعتْ دابرَهم أوْ لأنَّها لم تتضمنْ خيراً ما منْ إنشاءِ مطرٍ أو إلقاحِ شجرٍ وهي النكباءُ أو الدبُورُ أو الجنوبُ {مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ} أيْ جرتْ عليهِ {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} هو كُلُّ ما رَمَّ وَبليَ وتفتت منْ عظمٍ أو نباتٍ أو غيرِ ذلكَ {وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} وهُو قولُه تعالَى تمتعُوا في دارِكم ثلاثةَ أيامٍ قيلَ قالَ لهُم صالحٌ عليهِ السَّلامُ تصبحُ وجوهُكُم غداً مصفرةً وبعدَ غدٍ محمرةً واليومَ الثالثَ مسودةً ثمَّ يصبحكُم العذابُ {فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} أي فاستكبرُوا عن الامتثالِ بهِ {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} قيلَ لمَّا رأَوا العلاماتِ التي بيَّنها صالحٌ عليهِ السَّلامُ منَ اصفرارِ وجوهِهم واحمرارِها واسودادِها عمدُوا إلى قتلِه عليهِ السَّلامُ فنجاهُ الله تعالَى إلى أرضِ فلسطينَ، ولمَّا كانَ ضحوةُ اليومِ الرابعِ تحنطُوا وتكفنُوا بالأنطاعِ فأتتهُم الصيحةُ فهلكُوا وقرئ: {الصَّعقةُ} وهيَ المرةُ منَ الصَّعْقِ {وَهُمْ يَنظُرُونَ} إليهَا ويعاينونَها {فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} كقولِه تعالَى: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين} {وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ} بغيرِهم كَما لم يمتنعُوا بأنفسِهم.
{وَقَوْمَ نُوحٍ} أيْ وأهلكنَا قومَ نوحٍ فإنَّ ما قبلَهُ يدلُّ عليه أَوْ وَاذكُرْ ويجوزُ أنْ يكونَ معطوفاً على محلِ في عادٍ ويؤيدُه القراءةُ بالجَرِّ وقيلَ هُو معطوفٌ عَلَى مفعولِ فأخذنَاهُ {مِن قَبْلُ} أيْ منْ قبلِ هؤلاءِ المُهلَكين، {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} خارجينَ عنِ الحدودِ فيمَا كانُوا فيهِ منَ الكفرِ وَالمعاصِي {والسماء بنيناها بِأَيْدٍ} أيْ بقوةٍ {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} لقادرونَ منَ الوسعِ بمَعْنى الطاقةِ والموسعُ القادرُ عَلى الإنفاقِ أوْ لموسعونَ السماءَ أو ما بينَها وَبينَ الأرضِ أو الرزقِ.


{والأرض فرشناها} مهدناهَا وبسطناهَا ليستقروا علَيها {فَنِعْمَ الماهدون} أيْ نحنُ {وَمِن كُلّ شَىْء} أيْ منَ الأجناسِ {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أيْ نوعينِ ذكراً وأُنثْى، وقيلَ متقابلينَ: السماءَ والأرضَ والليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ والبرَّ والبحرَ ونحوَ ذلكَ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي فعلنَا ذلكَ كُلَّه كي تتذكُروا فتعرفُوا أنَّه خالقُ الكُلِّ ورازقُه وأنَّه المستحقُّ للعبادةِ وأنَّه قادرٌ عَلى إعادةِ الجميعِ فتعملُوا بمقتضاهُ وقولُه تعالَى: {فَفِرُّواْ إِلَى الله} مقدرٌ لقولٍ خُوطبَ بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريقِ التلوينِ. والفاءُ إما لترتيبِ الأمرِ عَلى ما حُكيَ من إثارِة غضبِه الموجبةِ للفرارِ منْهَا ومنْ أحكامِ رحمتِه المستدعيةِ للفرار إليَها، كأنَّه قيلَ قُلْ لَهُم إذَا كانَ الأمرُ كذلكَ فاهربُوا إلى الله الذَّي هذِه شؤونُه بالإيمانِ والطاعةِ كيْ تنجوا من عقابهِ وتفوزُوا بثوابِه، وَإِمَّا للعطفِ عَلى جُملةٍ مقدرةٍ مترتبةٍ عَلى قولِه تعالَى لعلَّكُم تذكرونَ كأنَّه قيلَ قُلْ لَهُم فتذكُروا ففرُّوا إلى الله الخ، وقولُه تعالَى: {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} تعليلٌ للأمرِ بالفرارِ إليهِ تعالَى أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ فإنَّ كونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُنذِراً منُهُ تعالَى موجبٌ عليهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ أنْ يأمرَهُم بالفرارِ إليهِ وعليهمْ أنْ يمتثلُوا بهِ أي إنِّي لكُم منَ جهتِه تعالَى منذرٌ بينٌ كونُه منذراً منْهُ تعالَى أو مظهرٌ لما يجبُ إظهارُهُ منَ العذابِ المنذَرِ بهِ، وفي أمرِه تعالَى للرسولِ صلى الله عليه وسلم بأنْ يأمرَهُم بالهربِ إليهِ تعالَى منْ عقابِه وتعليلِه بأنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ينذرُهم منْ جهتِه تعالَى لا منْ تلقاءِ نفسِه. وعدٌ كريمٌ بنجاتِهم من المهروبِ وفوزِهم بالمطلوبِ وقولُه تعالَى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} نهيٌ موجبٌ للفرارِ منْ سببِ العقابِ بعدَ الأمرِ بالفرارِ منْ نفسِه كمَا يشعرُ بهِ قولُه تعالَى: {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ} أيْ منَ الجعلِ المنهيِّ عنْهُ {نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فإنَّ تعلقَ كلمةِ منْ بالإنذارِ معَ كونِ صلتِه الباءَ بتضمينِه معنْى الإفرارِ يقالُ فَرَّ منْهُ أيْ هربَ وأفرَّه غيرُهُ كأنَّه قيلَ وفِرُّوا منْ أنْ تجعلُوا معَهُ تعالَى اعتقاداً أَو قولاً إلهاً آخر وفيهِ تأكيدٌ لما قبلَهُ منَ الأمرِ بالفرارِ من العقابِ إليهِ تعالَى لكنْ لا بطريقِ التكريرِ كمَا قيلَ بَلْ بالنهي عنْ سببهِ وإيجابِ الفرارِ منْهُ.
{كذلك} أي الأمرُ مثلَ ما ذكرَ منْ تكذيبِهم الرسولَ وتسميتِهم لَهُ ساحِراً أو مَجْنُوناً، وقولُه تعالَى: {مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ} إلخ تفسيرٌ لهُ أيْ ما أتَاهُم {مِن رَّسُولٍ} مِنْ رسلِ الله {إِلاَّ قَالُواْ} في حَقَّه {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} ولا سبيلَ إِلى انتصابِ الكافِ بأَتَى لامتناعِ عملِ مَا بعدَ (مَا) النافيةِ فيمَا قبلَها.


{أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} إِنْكارٌ وتعجيبٌ منْ حالِهم وإجماعِهم عَلى تلكَ الكلمةِ الشنيعةِ التي لاَ تكادُ تخطرُ ببالِ أحدٍ من العقلاءِ فضلاً عن التفوهِ بهَا أيْ أَأَوْصَى بهذَا القولِ بعضُهم بعضاً حتَّى اتفقُوا عليهِ وقولُه تعالَى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون} إضرابٌ عنْ كونِ مدارِ اتفاقِهم عَلى الشرِّ تواصيهم بذلكَ وإثباتٌ لكونِه أمراً أقبحَ منَ التَّواصِي وأشنعَ منْهُ منَ الطغيانِ الشاملِ للكُلِّ الدالِّ عَلى أنَّ صدورَ تلكَ الكلمةِ الشنيعةِ عنْ كُلِّ واحدٍ منْهُم بمقتضَى جبلَّتِه الخبيثةِ لا بموجبِ وصيةِ منْ قبلِهم بذلكَ منْ غيرِ أنْ يكونَ ذلكَ مُقْتضى طباعِهم {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرضْ عنْ جدالِهم فقدْ كررتَ عليهِم الدعوةَ فأبَوا إلا الإباءَ {فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} عَلى التولِّي بعدَ مَا بذلتَ المجهودَ وجاوزتَ فية الإبلاغِ كُلَّ حدَ معهودٍ.
{وَذَكَرَ} أي أفعلْ التذكيرَ والموعظةَ ولاَ تدعُهما بالمرةِ أو فذكرهُم وَقدْ حُذِفَ الضَّميرُ لظهورِ الأَمْرِ {فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} أي الذينَ قدرَ الله تعالَى إيمانَهُم أوِ الذينَ آمنُوا بالفعلِ فإنَّها تزيدُهم بصرةً وقوةً في اليقينِ {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} استئنافٌ مؤكدٌ للأمرِ مقررٌ لمضمونِ تعليلهِ فإنَّ كونَ خَلقِهم مُغياً بعبادتِه تعالَى ممَّا يدعُوه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى تذكيرِهم ويوجبُ عليهمْ التذكرَ والاتعاظَ، ولعلَّ تقديمَ خلقِ الجَنِّ في الذكرِ لتقدمهِ على خَلْق الإنسِ في الوجودِ ومَعْنى خلقِهم لعبادتِه تعالَى خلقُهم مستعدينَ لَها ومتمكنينَ منْها أتمَّ استعدادٍ وأكملَ تمكنٍ معَ كونِها مطلُوبةً مِنهُمْ بتنزيلِ ترتبِ الغايةِ عَلى مَا هيَ ثمرةٌ لَهُ منزلةَ ترتبِّ الغرضِ عَلى ما هُو غرضٌ لَهُ فإنَّ استتباعَ أفعالِه تعالَى لغاياتٍ جليلةٍ ممَّا لاَ نزاعَ فيهِ قطعاً، كيفَ لاَ وهيَ رحمةٌ منْهُ تعالَى وتفضلٌّ عَلى عبادِه وإنَّما الذي لا يليقُ يجنابهِ عَزَّ وجَلَّ تعليلُها بالغرضِ بمَعْنى الباعثِ عَلى الفِعْل بحيثُ لولاَهُ لم يفعلْهُ لإفضائِه إلى استكمالِه بفعلِه وهُوَ الكاملُ بالفعلِ منْ كُلِّ وجهٍ، وأمَّا بمَعْنى نهايةٍ كماليةٍ يُفْضِي إليهَا فعلُ الفاعلِ الحقَّ فغيرُ منفيَ أفعالِه تعالَى بل كُلُّها جاريةٌ عَلى ذلكَ المنهاجِ، وعَلى هَذا الاعتبارِ يدورُ وصفُه تعالَى بالحكمةِ ويكفي في تحقيقِ مَعْنى التعليلِ عَلى ما يقولُه الفقهاءُ ويتعارفُه أهلُ اللغة هَذا المقدارُ وبِه يتحققُ مدلولُ اللامِ وأما إرادةُ الفاعلِ لَها فليستْ من مقتضياتِ اللامِ حَتَّى يلزمَ منْ عدمِ صدورِ العبادةِ عنِ البعضِ تخلفُ المرادِ عن الإرادةِ فإنْ تعوقَ البعضِ عنِ الوصولِ إلى الغايةِ معَ تعاضدِ المبادىِ وتآخذِ المقدماتِ الموصلةِ إليهَا لا يمنعُ كونَها غايةً كمَا في قولِه تعالَى: {كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} ونظائِره، وقيلَ المَعْنى إلا ليؤمُروا بعبادِتي كما في قولِه تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} وقيلَ: المرادُ سعداءُ الجنسينِ كما أنَّ المرادَ بقولِه تعالَى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس} أشقياؤُهما ويعضُده قراءةُ مَنْ قرأَ وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ منَ المؤمنينَ وقال مجاهد واختارَهُ البغويُّ معناهُ إلا ليعرفونِ ومدارُه قولُه صلى الله عليه وسلم فيمَا يحكيِه عنْ رَبِّ العزةِ: «كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أنْ أعرفَ فخلقتُ الخلقَ لأعرفَ» ولعلَّ السرَّ في التعبيرِ عنِ المعرفةِ بالعبادةِ عَلى طريقِ إطلاقِ اسمِ السببِ عَلى المسببِ التنبيهُ عَلى أنَّ المعتبرَ هيَ المعرفةُ الحاصلةُ بعبادتِه تعالَى لا ما يحصلُ بغيرِها كمعرفةِ الفلاسفةِ.

1 | 2 | 3 | 4